الخميس، 28 يوليو 2011

تعريفٌ موجزٌ للحضارة والتمييز بينها وبين الثقافة

تعريفٌ موجزٌ للحضارة والتمييز بينها وبين الثقافة
قد يختلط معنى “الحضارة” Civilization بمعنى “الثقافة” Culture في كثير من المناسبات. ويذهبُ بعضُ الكتَّاب إلى عدَم التمييز بين الحضارة والثقافة مثل تايلور E.B.Tylor في كتابه المعروف Primitive Culture؛ ولكنَّنا سنميِّز في هذه الدراسة بين الأُولى والثانية. فـ“الثقافة” هي مجموعُ المظاهر البارزة في حياة أيّ مجتمع أو مجموعة بشريَّة، والشاملة العاداتِ والتقاليدَ والأَعرافَ والمُعتقداتِ والفنونَ والأفكار وغيرها ، بصرف النظر عن مستواها وتميُّزها على المستوى العالميّ، وعن مقارنتها بما يُقابلُها في المجتمعات الأُخرى. بينما نعني بـ“الحضارة” تلك المظاهر البارزة من حياة المجتمع التي تتميَّز بحظوظٍ وألوانٍ من التقدُّم والرقيّ، كما يقول قسطنطين زرَيق.4 ويُعرِّف ويل ديورانت Will Durant الحضارة بأنَّها نظامٌ اجتماعيّ يُعينُ الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافيّ، وهي تتألَّف من عناصرَ أربعة: المواردِ الاقتصاديَّة، والنُّظمِ السياسيَّة، والتقاليدِ الخُـلُقيَّة، ومُتابعة العُلوم والفنون. وهي تبدأُ عندما ينتهي الاضطراب والقلق.5
أمَّا كاتبُ هذه السطور فإنَّه يُحدِّدُ الحضارة، وفقًا لمفهومه السائد في هذا البحث، بأنَّها “حالة اجتماعيَّة مَرحليَّة تتميَّزُ بالصيرورة والتطوُّر المستمرَّين، ويجري في إطارها تفاعلٌ مُتبادَل ومُتواصل بين الفرد والجماعة في سبيل الخَلق والإبداع في مجالات العلوم والفنون والمَعارف، على الصعيدَين النظريّ والعَمَليّ، لتحقيق حياة أفضل، ضمنَ نُظُمٍ اقتصاديَّة وسياسيَّة وقانونيَّة مُتكاملة ومُتطوِّرة.” ومن أهم شروطها:
1. السيطرةُ على المحيط بما فيه البيئة الطبيعيَّة والقُدرة على تكييفه إلى حدٍّ أو آخر.
2. الاستقرارُ الطبيعيّ في الأرض بما يقتضيه من شروطٍ مُتعدِّدة، منها: الفلاحة والزراعة وتدجين الحيوان، والصناعة التحويليَّة، وسُكنى المُدُن والقُرى.
3. التعاوُنُ الاجتماعيّ بين الأفراد، وبين الفرد والجماعة.
4. اللغةُ المُتقدِّمة والكتابة لتحقيق التعامُل والتعارُف بين الأفراد.
5. قَدْرٌ معيَّنٌ من الجهاز الحكوميّ أو السُلطة المُنظّمة بشكلٍ أو آخر.
وهذه محاولةٌ جدُّ متواضعة لتحديد مفهوم الحضارة، وهي خاضعة للتعديل والتنقيح.

] ثـانـيــًا:

تتَّسم دراساتُ العلوم الإنسانيَّة، خلافًا لدراسات العلوم الطبيعيَّة، بأنَّها تعتمدُ على الفَرضيَّات القائمة على الاستقراء، للتوصُّل إلى استنتاجات قد تُؤدِّي إلى وَضع نظريَّات. ونظرًا لتعذُّر إمكانيَّة فصل الظاهرة الاجتماعية وفحصها فحصًا مِجهريًّا أو إخضاعها للفحوص المُختَبريَّة كما يجري في العلوم الطبيعيَّة (الكيميائيَّة والفيزيائيَّة) مثلاً، فإنَّ جميع هذه الدراسات وما قد يتمخَّض عنها من نظريَّات تُعتَبَرُ مُقارَبات ناجحة نسبيًّا أو غير ناجحة، بمقدار دُنوِّها من الواقع الحقيقيّ، الذي هو بحدِّ ذاته يُمثِّلُ حالةً نسبيَّة غير مُطلقة. وهكذا، قد تختلف الآراءُ في كلِّ قضيَّة من هذه القضايا. ومع ذلك فإنَّ الكاتبَ المدقِّق يُحاول، قَدرَ الإمكان، الاقترابَ من تلك الحقيقة المفترَضة، بأسلوبٍ موضوعيٍّ objective، أي دون أن يكون مُتأثِّرًا بأفكارٍ أو مُعتقداتٍ قَبْليَّة تُؤثِّر في نتائج أحكامه. ومع تعذُّر الوصول إلى الموضوعيَّة المُطلقة، فإنَّ آراءَ الكاتب ينبغي أن تُقَوَّم بمدى التزامه إيَّاها (أي الموضوعيَّة) واحترامه لمنهجيَّتها. لذلك أَستميحُ القارئ عُذرًا، مُقدَّمًا، عن الخطإ والشَّطَط، أو عن التعصُّب أو المَيل إلى أيِّ رأيٍ أو فكرةٍ نظريَّة أكثر ممَّا ينبغي، أو بالقَدْر الذي يُعميني عن اكتشاف ما عليها. وهكذا فإنَّ جميعَ الآراء المطروحة في هذه الدراسة قابلةٌ للنقد الذي قد يُغْنيها، والتعديل الذي قد يُطوِّرُها ويُثريها.

 ثـالـثــًا:

ترمي الدراساتُ التاريخيَّة العلميَّة والنقديَّة، على ما أرى، إلى الكشف عن وقائع الماضي وتمحيصها ومُحاولة تفهُّمها للتقرُّب إلى فهم الحاضر واستشراف المستقبل قدْرَ الإمكان. فتاريخُ أيِّ أُمَّة—أو مجتمع—يمكن أن يُمثِّلَ ذاكرتَها وعقلَها الباطن، إن صحَّ التعبير. وقد يجوز القولُ إنَّ تاريخَ أُمَّةٍ ما يُشبه، إلى حدٍّ بعيدٍ، سيرةَ الفَردِ الشخصيَّة منذ طفولته الأُولى مرورًا بصباهُ وشبابه، مع ما فيها من عوامل بيئتـه البـيتيَّة، والطبيعيَّة، والمدرسيَّة، وكلّ ما يطبعُ حياتَه المُستقبلَة بطابعه وتأثيره. ومن هذا المُنطلَق يمكن أن نعتبرَ التاريخ علمًا، لأنَّه لا يُعنى بالوقائع الماضية إلاَّ بقَدْر ما يُمكن أن تُؤثِّرَ في الحالة الراهنة للتوصُّل إلى بعض القوانين التي قد ترسمُ اتِّجاهاتِ المستقبل، بعد دراسة خطوط الماضي. فوجودنا الراهنُ، في واقع الأمرِ، هو امتدادٌ لوجودِنا في الماضي، وحلقةٌ واحدةٌ من سلسلةٍ طويلةٍ، تمتدُّ من أَزمنة التاريخ الغابر إلى التاريخ المستقبل، إن صحَّ التعبير.

 رابـعــًا:

لعلَّ من أهمِّ ما نفتقرُ إليه، كأُمَّةٍ عربيِّةٍ مُتطلِّعة إلى حياةٍ أفضل، هو إعادةُ كتابة التاريخ العربيّ الإسلاميّ بأسلوبٍ علميٍّ موضوعيّ يتوخَّى—بالإضافة إلى الدِّقَّة والحَذر في استقصاء المعلومات والحقائق من مَصادرها الأصليَّة، قَدْرَ الإمكان، وتمحيصِها ونقدِها—بحثَ جميع القضايا التي تطرحُها تلك الأحداثُ وتحليلَها ونقدَها باعتبارها قضايا اجتماعيَّة وفلسفيَّة وإنسانيَّة وحَضاريَّة، أو بالأَحرى معرفيـَّة (إبستِمولوجيَّة)، أي ليست إيديولوجيَّة أو فِئَويَّة أو دينيَّة. ذلك فضلاً عن عرض جميع جوانب التاريخ العربيّ الإسلاميّ الإيجابيَّة والسلبيَّة، دون أيّ مُجاملة أو مُوارَبة أو مُحاباة، مع استعراض مُختلف وُجهات النظر في القضايا الخلافيَّة. فالتاريخ العربيُّ الإسلاميُّ كُتِبَ في العصر الحديث بأَقلامِ المُستشرقين بوجهٍ خاصّ؛ ومع الاعتراف بأنَّ بعض هذه الدراسات كانت جديرةً بالاعتبار،7 فإنَّ بعضَها الآخر تميَّزَ بالتحيُّز أو عدم التزام الموضوعيَّة على الأقل.ّ8 أمَّا دراساتُ العرب، والمسلمين بوجهٍ خاصٍّ، فكانت—على الأرجح—إمَّا سطحيَّة، في الغالب، أو مُتحيِّزة، أو تتَّخذ موقفاً دفاعيًّا إزاء “الآخَر”.9 إنَّ قُدرة العرب على إعادة كتابة تاريخهم بمنهجيَّة علميَّة رصينة تعكسُ، من جهة، مدى نضوجهم الفكريّ، كما تنعكس، من جهة أُخرى، على وجودهم وكيانهم الحضاريّ، ومدى إمكانيَّاتهم في الصمود أمام تحدِّيات “الآخَر”10. وترتبطُ كذلك بعقليَّة الفرد والأُمَّة التي ما زالت، إلى حدٍّ بعيد، تعيشُ ماضيها، لا باعتباره ماضيًا، بل باعتباره حاضرًا ومُستقبلاً. 11 وهذا ما طرحناه في كتاباتنا بشأن اقتراح مشروع الموسوعة العربيَّة.12
وإن حاولنا مثل هذه المحاولة—مُحاولة إعادة كتابة تاريخنا—فلعلَّنا نتأسَّى بعالِمنا الكبير عبد الرحمن بن خلدون الذي يُعتَبَر بحقّ الرائدَ الأَوَّل الذي فتح لعلم التاريخ مَدخلاً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق