الخميس، 28 يوليو 2011

الوَساطة، العقلُ المُجتمَعيّ، العصبيَّةُ القَبَليَّة

الوَساطة، العقلُ المُجتمَعيّ، العصبيَّةُ القَبَليَّة
أتذكَّرُ أنَّني، في حداثتي، كنتُ أذهبُ بصُحبةِ والدي إلى مجلسِ أحدِ وُجَهاءِ محلـَّتِنا، فأستمعُ إلى الكبار يمتدحون مسؤولاً لأنَّه يُساعدُ كلَّ مَن يطرقُ بابَه، وخاصَّة أبناءَ عشيرته، باعتبار أنَّ الأقربـين أَولى بالمعروف، وأنَّ ”خيرَ الناسِ مَن نفَعَ الناس.“ كما أُلاحظُ أنَّهم يذمُّون آخَرَ، لأنَّه تـنكـَّرَ لأصدقائه، بل لعشيرته، بسبب عدمِ تعيينِ أيٍّ منهم في وظيفةٍ رسميَّة، ويتَّهمونه بأنَّه ”ضعيف“، لأنَّه لا يتمكَّنُ حتَّى من تعيين ”فَرّاش“ (حاجب) في الدائرة التي يُشرِفُ عليها. ثمَّ ”ينتخون“ ذلك الوجيه، بعد كلِّ هذه المقدّمات وكَيل المديح إليه، ليتوسَّطَ لهم لدى أحد المسؤولين لتعيين ذلك الشابِّ الفقير، الذي تحتاج أسرتـُه إلى العَون، بصفةِ الوجيه شيخَ المحلَّة وسيِّدَ العشيرة وصاحبَ الأيادي البيضاء، وكذا وكذا...
ولاحظتُ، وأنا أتقدَّمُ في السنِّ والخبرة، أنَّ معظمَ المراكز والوظائف كانت تُقَرَّرُ استنادًا إلى حقوق القرابةِ والانتماءِ العشائريِّ والجيرةِ والصداقةِ وعلاقاتِ النسابة، أو ”الوَساطة“ على وجه العموم. ولا يصْدقُ هذا الأمرُ على العراق وحَسب، بل يسودُ جميع البُلدان العربيَّة.
ويذكرُ الورديُّ أنَّ قبولَ الوَساطةِ وقضاءِ الحاجة، يدلُّ على مروءةِ المسؤول والتزامِه الشهامةَ العربيَّةَ وحقوقَ العصبيَّةِ والدخالة―ويقصدُ بها الاستجارة. وتُعتبَرُ ”الدخالة“ واحدةً من أهمِّ المُكوِّنات الأساسيَّة للثقافةِ البدويَّة، ويقصد بها إجارة المستجير إذا ”انتخى“ المُجير، الذي يكونُ عادةً شيخَ قبيلةٍ أُخرى، حتَّى لو كان قد ارتكب جريمة. ويكون من واجبِ المُجير أن يحميَ المُستجيرَ بأيِّ ثمَن. وكلَّما كان المُجيُر أكثرَ التزامًا وتفانيًا في حمايةِ المُستجير، أصبح أكثرَ احترامًا وسلطة.(22)
لِنُحاوِلْ تحليلَ هذه الظاهرةَ وتبيينَ أُصولِها وفروعِها، من خلال التجربة الشخصيَّةِ التي واجهتُها في مُقتبَلِ حياتي، ولاسيَّما في ضَوءِ الواقعة المذكورة أعلاه، ومدى ارتباطِها بالعقلِ المُجتمَعيّ، وعلاقتِها ببداوةِ العقل العربيّ، وتأثيرِها في المجتمعِ العربِّي الحديث ومدى إسهامِها في تخلُّفِه:
1- هؤلاء الأشخاص، الذين يطلبون الوَساطةَ من ذلك الوجيه، يُمثِّلون "العقلَ المُجتمَعيَّ" بكلِّ وضوح، ويعتقدون بإخلاصٍ أنَّهم يقومون بعملٍ نبيل وعظيم، لأنَّ فيه خيرَ الفردِ والجماعة، بل قد يكون فيه إنقاذُ أُسرة.
2- من جهةٍ أُخرى، فإنَّ ”الوجيهَ“ المذكور يشعرُ بالعزَّةِ والاحترام أمام أبناءِ محلَّتِه، وهو يقومُ بدورِ شيخِ القبيلةِ الذي عليه رعايةُ أفرادِها وقبولُ الاستجارة. يُضاف إلى ذلك شعورُه بإرضاء الله والضمير، لأنَّه ساعدَ إنسانًا ضعيفَ الحال إلخ. وهو يُلبِّي، من خلال كلِّ ذلك، بمفهومِنا، مُتطلِّباتِ ”العقل المُجتمَعيِّ البدَويِّ السائد.“
3- وعلى صعيدٍ آخَر، فإنَّ الوَساطاتِ التي تجري على مُستوياتٍ أعلى، والتي قد تشملُ مُديرين عامِّين أو حتَّى وُزراء، تدخلُ فيها اعتباراتٌ مُتعدِّدة؛ منها: الصداقة، الانتماءُ الطائفيُّ أو الدينيُّ أو العشائريُّ أو الأُسَريّ. ويُلاحَظُ أنَّ جميعَ هذه الاعتباراتِ خاضعةٌ للعقلِ المُجتمَعيّ و/ أو القِيَمِ البدويَّة السائدة. وهنا نـُذكـِّر بما سَبقتْ إليه الإشارة بأنَّ كثيرًا من الدوَلِ العربيَّةِ تحرصُ على أن تكونَ أهمُّ وزاراتها تحت إشرافِ وُزراء من الأُسرةِ الحاكمة، أو العشيرةِ الحاكمة.
4- أمَّا معيارُ الكفاءة فنادرًا ما يؤخَذُ بعين الاعتبار. وهنا تكمنُ الطامَّةُ الكُبرى، التي نَخَّـرَتْ معظمَ مُؤَسَّساتِنا وإداراتِنا الحكوميَّة بوجهٍ خاصّ، لأنَّ الكفاءةَ تُعتبَرُ الأساسَ الأوَّل المُمهِّد لعمليَّة الإبداع. يقول كاتبٌ كُوَيتيّ: ”فما من شكٍّ في أنَّ وزاراتٍ ومُؤَسَّساتٍ عِلميَّة واقتصاديَّة وسياسيَّة تُعاني من ضعفٍ مُزمِن في إداراتها لِكَونِ مُحدِّداتٍ، مِثلِ القبيلة أو الطائفة أو العائلة، لعبَت الدورَ الرئيسيَّ في تشكيل قياداتها.“(23)
في كتابه الهامّ ”صراع الدولة والقبيلة“ يُشيرُ محمَّد جواد رِضا إلى ”المحسوبيَّة“ باعتبارها ضدًّا للكفاءة، ويقول إنَّها ”سليلةُ القبيلة“، وتُمثِّلُ ”تدبيرًا اجتماعيًّا تُصبحُ بموجِبِه حقوقُ الإنسان مُرتبطةً بعلاقاتِه الاجتماعيَّة أو أصلِه الاجتماعيّ.“ ويُضيف أنَّ المجتمعَ العربيَّ، بما فيه الخليجيُّ المُعاصِر، ”لا يزال يهدرُ حقوقَ الإنسان، الذي لا سندَ له من قوَّةٍ اجتماعيَّة أو قَبَليَّة.“ كما يذكرُ عدَّةَ تناقُضاتٍ تُنخِّرُ جسمَ المجتمعِ الخليجيّ؛ منها: ”التقليدُ (الاتِّباع) ضِدًّا للإبداع، والقبيلة ضِدًّا للتعاقُد الاجتماعيّ، والمحسوبيَّة ضِدًّا للكفاءة الفرديَّة.“(24)
وقد يُقالُ إنَّّ الوَساطاتِ موجودةٌ في جميع البلدانِ بما فيها المتقدِّمة، ومنها الولاياتُ المتَّحدة. فأقول: نعَم، هذا صحيح، وليست بعيدةً عنَّا واقعة ”مونيكا لوينسكي“ التي توسَّطَ لها الرئيسُ الأمريكيّ، بيل كلينتون، للحصول على عمَل، بُحكمِ علاقتِه المعروفةِ بها. غير أنَّ هناك فرقًا كبيرًا بين أن تكونَ الوَساطةُ سائدةً لدَينا باعتبارها قاعدة، وأن تحدثَ لديهم على سبيل الاستثناء، والتعرُّض للمحاسبة أو العقاب أحيانًا، كما حدثَ فعلاً في هذه الحالة الأخيرة. هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى، فإنَّ مِعيارَ الكفاءةِ يظلُّ مُعتبَرًا كأساسٍ أوَّل، حتَّى في حالة الوَساطة. ومُقابل ذلك فإنَّ في بلدٍ مِثلِ الولايات المتَّحدة مثلاً، يتوافرُ أشخاصٌ مُتخصِّصون في اصطيادِ الأدمغة Heads Hunters، يتركَّزُ عملُهم على اصطيادِ العقولِ الكبيرة، وتقديمِ العُروضِ المُغرية لأصحابِها، لتوظيفِهم في مراكزَ أفضل، وبمُرتَّباتٍ أعلى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق